صعوبات التعلم لدى أطفال متلازمة داون:  بين دعم الأسرة وجهود المدرسة…

بقلم/ الدكتورة جويدة باحمد _ رئيسة برنامج التربية الخاصة مؤسسة BRCالعلمية الدولية_ الجزائر

     تُعتبر متلازمة داون من أكثر الاضطرابات الوراثية المرتبطة بالإعاقة الذهنية شيوعًا، حيث تشير الدراسات إلى أن نسبة حدوثها تبلغ حالة واحدة تقريبًا من بين كل 700 ولادة. ويتميز الأطفال المصابون بهذه المتلازمة بملامح جسدية مميزة، إلى جانب جملة من الصعوبات النمائية والمعرفية التي تجعل من مسارهم التعليمي أكثر تعقيدًا مقارنة بأقرانهم. ورغم هذه التحديات، أثبتت الأبحاث أن أطفال متلازمة داون قادرون على التعلم واكتساب المهارات إذا توفرت لهم بيئة تعليمية مناسبة، ودعم أسري وتربوي متواصل. فالتعلم بالنسبة لهم لا ينحصر في المدرسة فقط، بل هو عملية مستمرة تبدأ من البيت عبر الأنشطة اليومية البسيطة، وتمتد إلى المدرسة باعتبارها الإطار الرسمي المنظم للتعليم. لكن المعضلة تكمن في أن الصعوبات التي يواجهها هؤلاء الأطفال لا تُفهم دائمًا بالشكل الصحيح، إذ قد ينظر إليها بعض المعلمين أو حتى بعض الآباء على أنها عجز مطلق، في حين أنها في حقيقتها تحديات قابلة للتذليل إذا ما توفرت الوسائل التربوية الحديثة، والوعي الكافي لدى الأسرة، والتنسيق المستمر بين الطرفين. إن الحديث عن صعوبات التعلم لدى أطفال متلازمة داون بين البيت والمدرسة ليس مجرد رصد للمشكلات، بل هو محاولة لفتح نقاش حول كيفية بناء شراكة تربوية وإنسانية قوامها الفهم، الصبر، والإيمان بقدرات الطفل. فكل خطوة ناجحة في البيت، أو تعديل بسيط في طريقة التدريس داخل القسم، قد يشكل فارقًا كبيرًا في مسار تعلم الطفل وحياته المستقبلية.

  تشير صعوبات التعلم إلى مجموعة من الاضطرابات التي تؤثر على قدرة الطفل في اكتساب واستخدام مهارات أساسية مثل القراءة، الكتابة، الحساب، أو حتى الفهم واللغة. وهي لا تعكس نقصًا في الذكاء بالضرورة، بل ترتبط بخلل في العمليات الإدراكية والمعرفية التي يحتاجها التعلم، مثل الانتباه، الذاكرة، التنظيم، أو التآزر الحركي البصري. ويُنظر إليها اليوم كفئة قائمة بذاتها تختلف عن التأخر العقلي أو المشكلات السلوكية، إذ يمكن أن تصيب أطفالًا بمستويات ذكاء عادية أو حتى مرتفعة، لكنهم يواجهون مشكلات في التحصيل الأكاديمي بسبب هذه الاضطرابات.

  أما لدى الأطفال ذوي متلازمة داون، فإن صعوبات التعلم تأخذ طابعًا خاصًا نتيجة تداخل عوامل متعددة. فعلى المستوى البيولوجي، يؤثر التركيب الجيني المميز لهذه المتلازمة وما يرتبط به من ضعف في التوتر العضلي وبطء النمو العصبي على القدرات الحركية والإدراكية. وعلى المستوى المعرفي، يظهر قصور واضح في الذاكرة قصيرة المدى وبطء في معالجة المعلومات، مما ينعكس على القدرة على التركيز والاستمرار في التعلم. وإلى جانب ذلك، تتجلى الصعوبات اللغوية بشكل بارز، حيث يتأخر الأطفال في اكتساب اللغة ويواجهون مشكلات في النطق وفهم التراكيب اللغوية المعقدة، وهو ما يحد من تواصلهم داخل البيئة التعليمية والاجتماعية.

  تتنوع مظاهر هذه الصعوبات بين جوانب معرفية مثل ضعف التركيز والذاكرة، وأخرى لغوية تتعلق بالتأخر في النطق وصعوبة إنتاج الأصوات، إضافة إلى تحديات أكاديمية تشمل صعوبة التمييز بين الحروف والأصوات أثناء القراءة، ومشكلات التآزر الحركي البصري في الكتابة، وضعف الفهم العددي في العمليات الحسابية. ولا تقف الصعوبات عند هذا الحد، بل تمتد إلى النواحي الاجتماعية والانفعالية، حيث قد يظهر الميل للانسحاب أو الحساسية الزائدة أو ضعف القدرة على مواجهة ضغوط البيئة الصفية، الأمر الذي يؤثر في الدافعية للتعلم والتفاعل مع الزملاء.

  ورغم أن الأسرة تمثل الحضن الأول والداعم الأهم للطفل، إلا أنها قد تواجه تحديات تحول دون أداء هذا الدور على أكمل وجه. فنقص الوعي بكيفية تعليم الطفل، أو محدودية الوقت والإمكانيات الاقتصادية، أو تضارب التوقعات بين المبالغة في الطموح أو الاستسلام المبكر، كلها عوامل تضعف الدعم الأسري. كما أن الضغوط اليومية المرتبطة بالإخوة أو العمل أو الوضع المادي قد تؤثر على استقرار الطفل نفسيًا وتحصيله التعليمي.

   ولا تقل المدرسة بدورها عن البيت في مواجهة التحديات، إذ قد تعجز المناهج الدراسية التقليدية عن التكيف مع احتياجات هؤلاء الأطفال، كما أن محدودية الوسائل التعليمية المساندة وضعف خبرة المعلمين في استراتيجيات التربية الخاصة يشكلان عائقًا إضافيًا. وتؤثر المقارنات السلبية مع الأقران على ثقة الطفل بنفسه ودافعيته، بينما يضعف غياب التعاون بين المدرسة والأسرة من فرص بناء خطة تعليمية فعالة.

  ومن هنا تبرز الحاجة الملحة إلى التكامل بين البيت والمدرسة، باعتباره الطريق الأمثل لتحقيق نجاح الطفل. ويتطلب ذلك إعداد خطة تربوية فردية تراعي قدراته الخاصة، وتبادلًا منتظمًا للمعلومات بين المعلمين وأولياء الأمور، إلى جانب تدريب الوالدين على استراتيجيات تعليمية منزلية تقوم على التكرار، اللعب، والوسائل البصرية. كما أن تمكين المدرسة من الموارد اللازمة وتكوين المعلمين في مجال التربية الخاصة يعد شرطًا أساسيًا، فضلاً عن توفير الدعم النفسي والاجتماعي للطفل وأسرته معًا.

    إن صعوبات التعلم لدى أطفال متلازمة داون ليست قدرًا محتومًا يعيق مسارهم التعليمي، بل هي تحديات يمكن تجاوزها بالتعاون بين الأسرة والمدرسة. ومن خلال بيئة تعليمية مرنة، داعمة، ومتفاهمة، يمكن فتح آفاق أوسع لهؤلاء الأطفال نحو التعلم، الاستقلالية، والاندماج في المجتمع.