عندما تتضاعف المعاناة: المرأة المعاقة في الريف بين حقها في الحب وقسوة التقاليد
بقلم/ د.اولادسالم نسيمة_رئيسة برنامج المراة الريفية والصحراوية لمؤسسة BRC العلمية والدولية
في زوايا مظلمة من القرى النائية، تجلس امرأة تحلم بالحب وهي تعلم أن المجتمع قد حكم عليها بالعزلة العاطفية منذ اللحظة الأولى التي وصفت فيها بـ”المعاقة”. هنا، حيث تتشابك خيوط التقاليد الراسخة مع الجهل المتجذر، تواجه المرأة ذات الإعاقة معركة مضاعفة: معركة ضد إعاقتها الجسدية أو الذهنية، ومعركة أشد قسوة ضد إعاقة مجتمعية ترفض الاعتراف بإنسانيتها وحقها في العاطفة والزواج والأمومة.
الإعاقة المضاعفة: تعيش المرأة المعاقة في البيئة الريفية تحت وطأة ما يمكن تسميته بـ”الإعاقة المضاعفة”. فإذا كانت الإعاقة بحد ذاتها تشكل تحديا في مجتمع لا يؤمن بالتنوع البشري، فإن كونها امرأة يضاعف من هذا التحدي إلى حد الاستحالة أحيانا. المجتمع الريفي، المحكوم بمنظومة قيمية ذكورية صارمة، ينظر إلى المرأة أساسا من منظور وظيفتها الإنجابية والخدماتية. وعندما تفقد هذه المرأة قدرتها على أداء هذه “الوظائف المقدسة” – أو يعتقد أنها فقدتها – تسقط من المعادلة الاجتماعية تماما بحيث ان هذه النظرة الاختزالية للمرأة تتجسد بوضوح مؤلم في التعامل مع المرأة المعاقة. فالمجتمع الريفي، الذي يقيس قيمة المرأة بقدرتها على الإنجاب وخدمة الزوج والعائلة، يرى في الإعاقة عائقا مطلقا أمام تحقيق هذه “المهام المقدسة”. وهكذا، تحرم المرأة المعاقة ليس فقط من حقها في الحب والزواج، بل من حقها في أن ترى كإنسان كامل له مشاعر وأحلام وطموحات.
الوصمة الاجتماعية: في القرى، حيث تنتشر الأخبار بسرعة النار في الهشيم، تصبح الإعاقة وصمة لا تلاحق المرأة المعاقة وحدها، بل تمتد لتشمل العائلة بأسرها. الأهل، المثقلون بالخجل والعار المجتمعي، يختارون الطريق الأسهل: إخفاء ابنتهم عن الأنظار. تحبس في البيت، تمنع من المشاركة في المناسبات الاجتماعية، وتعامل وكأنها سر عائلي محرج يجب كتمانه؛ وعليه فان هذا الإخفاء ليس مجرد عزلة جسدية، بل هو قتل منهجي لروح المرأة وأحلامها. عندما تحرم من التفاعل الاجتماعي، تفقد فرصتها في تطوير علاقات عاطفية طبيعية. وعندما يتعامل معها الجميع كعبء، تبدأ هي نفسها في تصديق هذه النظرة المشوهة عن ذاتها. تتشرب الخزي والعار، وتقتنع بأنها لا تستحق الحب أو السعادة.
الأساطير المدمرة: يكتنف موضوع الإعاقة في البيئة الريفية العديد من الأساطير والخرافات المدمرة التي تزيد من معاناة المرأة المعاقة. إحدى أكثر هذه الأساطير انتشارا هي الاعتقاد بأن الإعاقة “معدية” أو أنها نتيجة “لعنة” أو “غضب إلهي”. هذه المعتقدات الخرافية تؤدي إلى تجنب الناس للمرأة المعاقة خوفا من “العدوى” أو من جلب “النحس” على أنفسهم.
أسطورة أخرى مدمرة تتعلق بالقدرة الإنجابية للمرأة المعاقة. يعتقد الكثيرون خطأً أن أي إعاقة، حتى لو كانت لا تؤثر على الجهاز التناسلي، تعني عدم القدرة على الإنجاب أو إنجاب أطفال “مشوهين”. هذا الجهل العلمي، المدعوم بالخوف والخرافة، يقضي على أي احتمالية لزواج المرأة المعاقة قبل أن تبدأ.
الحرمان العاطفي و قتل الروح بالتجاهل: ربما أقسى ما تعانيه المرأة المعاقة في الريف هو الحرمان العاطفي الكامل. المجتمع، بقسوته وجهله، يتعامل معها وكأنها لا تملك مشاعر أو حاجات عاطفية. لا أحد يتحدث معها عن الحب، لا أحد يسألها عن أحلامها في الزواج والأمومة، وكأن هذه الجوانب الإنسانية الأساسية محظورة عليها بحكم إعاقتها.
هذا التجاهل المنهجي لعالمها العاطفي يخلق فراغا مدمرا في حياتها. تكبر وهي تشاهد قريناتها يتزوجن وينجبن، بينما هي محكوم عليها بالوحدة الأبدية. الألم النفسي الناتج عن هذا الحرمان لا يقل قسوة عن ألمها الجسدي، بل قد يفوقه كثيرا. إنها تعيش موتا عاطفيا بطيئا، تذبل أحلامها يوما بعد يوم دون أن يلاحظ أحد أو يهتم.
الزواج المستحيل بحيث يصبح الحب جريمة: في النادر الذي تجد فيه المرأة المعاقة شخصا يحبها ويقبل بها، تواجه معركة جديدة ضد العائلة والمجتمع. الأهل، الخائفون من “الفضيحة” و”كلام الناس”، يرفضون هذا الحب بقسوة. ينظر إلى الرجل الذي يريد الزواج من امرأة معاقة كشخص “غريب” أو يعاني من مشاكل نفسية، وكأن الحب الحقيقي الذي يرى ما وراء الإعاقة أمر مستحيل أو غير طبيعي.حتى لو تجاوزت هذه العقبة، تواجه المرأة المعاقة تحديات جديدة في الزواج. المجتمع يراقب زواجها بعيون الشك والتربص، منتظرا أي مشكلة ليقول “ألم نقل لكم؟”. كل خلاف زوجي، كل مشكلة صحية، كل تأخير في الإنجاب يفسر كنتيجة حتمية لـ”الخطأ الأصلي” – زواجها رغم إعاقتها.
الأمومة المسروقة: أما الأمومة، فهي حلم بعيد المنال بالنسبة للمرأة المعاقة في الريف. حتى لو تمكنت من الزواج، فإن المجتمع يضع عليها ضغوطا هائلة لتجنب الإنجاب. الخوف من “وراثة الإعاقة” – حتى لو كانت غير وراثية – يطاردها ويطارد زوجها. العائلتان تتدخلان بقوة لمنع الحمل، وكأن حقها في الأمومة جريمة ضد المجتمع. وإذا حملت رغم كل العوائق، تعيش حملا مليئا بالقلق والخوف. كل فحص طبي يصبح محاكمة، كل حركة للجنين تُراقب بترقب مشوب بالرعب. وإذا وُلد الطفل سليما، ينسب الفضل إلى “رحمة الله” وليس إلى طبيعة الأمور. وإذا ولد بأي مشكلة، حتى لو كانت بسيطة ولا علاقة لها بإعاقة الأم، تلام هي وحدها وتحمل مسؤولية “جلب المصيبة” للعائلة.
التداعيات النفسية: كسور لا تشفى: العيش تحت هذه الضغوط الهائلة يترك آثارا نفسية مدمرة على المرأة المعاقة. الاكتئاب والقلق يصبحان رفيقين دائمين لها. تفقد الثقة بالنفس، وتتطور لديها صورة ذاتية مشوهة تصورها كعبء على الجميع. الشعور بالذنب يطاردها: ذنب كونها ولدت معاقة، ذنب “إحراج” العائلة، ذنب أحلامها في الحب والزواج.
هذا الألم النفسي لا يعترف به أو يعالج في البيئة الريفية. المفهوم السائد أن “الصبر” هو الحل الوحيد، وأن على المرأة المعاقة أن “تقبل بقدرها” دون تذمر. لا توجد خدمات نفسية، لا يوجد دعم معنوي، لا يوجد حتى اعتراف بحقها في الحزن على حلمها المسروق.
العزلة الاجتماعية تصبح سجن بلا قضبان: المرأة المعاقة في الريف تعيش في عزلة اجتماعية شبه كاملة. تستبعد من الأنشطة الاجتماعية، لا تدعى للمناسبات، ولا تشرك في القرارات التي تخص حتى حياتها الشخصية. هذا الاستبعاد المنهجي يحرمها من تطوير مهاراتها الاجتماعية ويقلل من فرصها في بناء علاقات صداقة داعمة.العزلة تخلق حلقة مفرغة بحيث كلما قل تفاعلها الاجتماعي، كلما قلت ثقتها بنفسها وقدرتها على التواصل. وكلما قلت هذه القدرة، كلما ازداد استبعادها من المجتمع. تصبح غريبة في مجتمعها، منبوذة في وطنها، وحيدة وسط عائلتها.
الاعتماد القسري وقتل الاستقلالية:رغم أن العديد من أنواع الإعاقة لا تمنع المرأة من العمل أو الاعتماد على نفسها، إلا أن المجتمع الريفي يفرض عليها الاعتماد الكامل على الأسرة. لا تعطى فرصة للتعليم أو التدريب، لا تشجع على تطوير مهاراتها، ولا تمنح حتى الفرصة لإثبات قدراتها. هذا الاعتماد القسري يزيد من شعورها بالعجز ويعمق إحساسها بأنها عبء على الجميع؛ النتيجة مأساوية: امرأة تملك إمكانات قد تكون هائلة، تدفن هذه الإمكانات تحت أطنان من التحيز والجهل. طاقات بشرية تهدر، مواهب تموت، وأحلام تدفن دون أن ترى النور.
الصمت المدمر بحيث يصبح الصراخ همساً :أقسى ما في معاناة المرأة المعاقة الريفية أنها معاناة صامتة. لا أحد يسمع صرخاتها، لا أحد يهتم بآلامها، ولا أحد حتى يعترف بوجودها كقضية تستحق الاهتمام. إعلاميا، هي غائبة تماما. أكاديميا، تذكر في إحصائيات باردة لا تعكس حقيقة معاناتها. سياسيً، لا يوجد من يتبنى قضيتها أو يدافع عن حقوقها. هذا الصمت المجتمعي يضاعف من ألمها. تشعر بأنها وحيدة في عالم لا يراها ولا يسمعها. أحلامها المكسورة، أحزانها المكبوتة، صرخاتها الخرساء – كلها تبقى حبيسة قلبها، تنهشه من الداخل دون أن يلاحظ أحد.
خاتمة: المرأة المعاقة في الريف تعيش مأساة مضاعفة لا تحتمل. هي ضحية لجهل مجتمعي عميق، لتقاليد قاسية لا ترحم، ولنظام قيمي مشوه يقيس قيمة الإنسان بمعايير خاطئة. إنها تحرم من أبسط حقوقها الإنسانية: الحق في الحب، الحق في الزواج، الحق في الأمومة، والحق في أن ترى كإنسان كامل. هذا الواقع المرير ليس قدرا محتوما، بل هو نتيجة لسنوات من التجاهل والجهل والتخلف الفكري. يمكن تغييره، ولكن هذا يتطلب ثورة حقيقية في الوعي المجتمعي. يتطلب تعليما حقيقيا عن طبيعة الإعاقة، وتشريعات تحمي حقوق المعاقين، وبرامج دمج فعالة تكسر حواجز العزلة.أكثر من ذلك، يتطلب الأمر اعترافا صريحا بأن المرأة المعاقة إنسان كامل له نفس الحقوق والأحلام والطموحات التي نتمتع بها جميعً. إنها تستحق الحب والاحترام والدعم، وليس الشفقة والإهمال والإقصاء، ان المرأة المعاقة في الريف لا تطلب المعجزات، بل تطلب فقط أن يعترف بإنسانيتها. أن تعطى الفرصة لتحلم وتحب وتعيش بكرامة. أن ينظر إليها كامرأة لها قلب ينبض ومشاعر تتألم وأحلام تستحق التحقيق. إن صمتنا على معاناتها يجعلنا شركاء في ظلمها. ووعينا بقضيتها هو الخطوة الأولى نحو إنصافها. فلنكسر هذا الصمت، ولنعطي صوتا لمن أسكتت قسرا. ولنجعل من مجتمعاتنا أماكن يمكن للجميع أن يعيشوا فيها بكرامة وحب واحترام، بغض النظر عن قدراتهم أو إعاقاتهم.
