الحرب النفسية
بقلم/ الاستاذة ملاك فواز القطيش اختصاصية نفسية / الاردن
يُعرف علم النفس السياسي الحرب النفسية بأنها: “استخدام ممنهج لوسائل إعلامية، رمزية، واجتماعية تهدف إلى التأثير على تفكير وسلوك العدو، وزرع الشك والخوف والانقسام في داخله” (Taylor, 2003). وهي تختلف عن الدعاية (Propaganda) في كونها أشمل وأعمق، إذ تتداخل مع أدوات الضغط النفسي والتلاعب الإدراكي واختراق الهوية الثقافية.
تشيرالـ Propaganda إلى “أسلوب مُمنهج للتأثير النفسي يستخدم رسائل عاطفية ومكررة تهدف إلى تشكيل المعتقدات، والانفعالات، والسلوكيات لدى الأفراد، غالبًا دون وعيهم الكامل، وبما يخدم أهدافًا سياسية أو اجتماعية أو أيديولوجية.”
عند تعرّض الفرد لـ Propaganda، لا يتفاعل فقط من خلال الإدراك الواعي، بل يتم تفعيل مجموعة من ميكانيزمات الدفاع النفسية (Defense Mechanisms)، وهي استجابات لاواعية يستخدمها العقل لحماية النفس من القلق أو الصراع الداخلي. من أبرز هذه الميكانيزمات في هذا السياق: الإنكار (Denial)، حيث يرفض الفرد تصديق المعلومات المتناقضة مع ما تلقّاه من الرسائل المكررة، والتبرير (Rationalization)، حيث يحاول إعادة تفسير الواقع ليبدو منسجمًا مع الرواية المُقدمة.
أظهرت دراسة منشورة في Journal of Social and Political Psychology (2017) أن Propaganda تؤثر أولًا على الجهاز الانفعالي للفرد (Affective System)، قبل أن تصل إلى الجهاز المعرفي (Cognitive System)، مما يؤدي إلى تعطيل التفكير النقدي وتقليل قدرة الفرد على التحليل العقلاني. وهذا يجعل الناس أكثر قابلية لتبني الأفكار المُقدمة حتى لو كانت متطرفة أو غير منطقية.
من التأثيرات الخطيرة لـ Propaganda أيضًا ما يُعرف بـ الاعتياد الانفعالي (Emotional Desensitization)، حيث يُصبح الفرد مع الوقت غير متفاعل شعوريًا مع الرسائل الصادمة، فيتقبلها تدريجيًا كأمر طبيعي. وهنا يفقد الجهاز النفسي بعض قدراته الدفاعية العقلانية ويتحول إلى تكرار الرسائل دون تمحيص.
لتمييز Propaganda عن المعلومات الموضوعية، يُنصح الفرد بأن يسأل نفسه: هل هذه الرسالة تثير مشاعري أكثر مما تقدم أدلة؟ هل تعكس وجهة نظر واحدة فقط؟ هل تُبث من مصدر واحد أو مكرر؟ كما أن تطوير الوعي الذاتي بميكانيزمات الدفاع النفسية يُمكن أن يساعد الشخص على رصد لحظة التأثر والتوقف عندها لتحليلها بوعي.
الحرب النفسية تستهدف نقطة مركزية في بنيان النفس البشرية و هي حاجتها العميقة للأمان. فالإنسان، بطبيعته الفطرية، كائن يبحث عن الاستقرار والأمن النفسي و الجسدي و المادي. وعندما يتم العبث بهذا الأمن، كما في أوقات الحرب أو الأزمات، تبدأ أنظمة الطوارئ النفسية بالعمل، ويظهر القلق كرد فعل طبيعي.
يشير عالم النفس أبراهام ماسلو في هرمه الشهير إلى أن الأمان يقع في الطبقة الثانية من الاحتياجات الأساسية بعد الحاجات البيولوجية كالطعام و النوم . وعندما يُسلب الأمان، تُعلق النفس في حالة من التأهب والخوف والتفسير المستمر لما يحدث، سعيًا لاستعادة السيطرة.
كيف تدير النفس البشرية القلق؟
في حالات الحرب النفسية، لا يأتي القلق من الخطر المباشر فقط، بل من الضبابية والغموض و”عدم معرفة من يصدق ومن يثق به”. القلق بطبيعته يكره الفراغ، لذا تبدأ النفس بملئه بأي تفسير متاح، حتى لو كان غير دقيق.
في علم النفس المعرفي، نسمي هذا:
“التحيز نحو المعلومات التي تبدد القلق، لا تلك التي تثبت صحتها”.
- عندما يشعر الإنسان بالتهديد، يُصبح أكثر عرضة لتصديق الشائعات لأنها تُعطي إجابات فورية (وإن كانت خاطئة).
- يُفضل الدماغ قصة كاذبة واضحة على واقع حقيقي غير مفهوم.
- الشائعة تُعطيك إحساسًا زائفًا بأنك “تعرف” ما يجري، فتخفف القلق لحظيًا.
لماذا تنتشر الشائعات بسرعة في بيئات الخوف؟
هناك ثلاث آليات نفسية رئيسية تفسر ذلك:
- العدوى العاطفية: الخوف مُعدٍ، وعندما يرى الناس الآخرين قلقين، يرتفع مستوى قلقهم دون وعي.
- التحيز التأكيدي: يبحث الناس فقط عما يثبت شكوكهم أو مخاوفهم، ويتجاهلون الحقائق التي تعارضها.
- الاحتياج للمعنى: العقل لا يتحمل الفراغ المعرفي، لذا يملؤه بأي معنى حتى لو كان مشوشًا أو ملفقًا.
دراسة أُجريت في جامعة Michigan (2020) وجدت أن نسبة تصديق الشائعات تزداد بنسبة 65% في حالات التهديد الجمعي أو الكوارث، وأن الأشخاص الذين يشعرون بالعجز هم الأكثر نشراً وتلقياً لها.
دور الأمان النفسي في التصدي للحرب النفسية:
بناء الأمان النفسي مهم جدًا في ظروف التوتر الإقليمي الذي نعيشه، بل هو خط دفاع ضد التلاعب العقلي والإعلامي.
النفس التي تشعر بأنها محمية وتملك أدوات عقلية لفهم الأحداث، تكون أقل عرضة للتلاعب، والشائعات، والانهيار.
