البطالة والغلاء المعيشي: تحديات اقتصادية تستدعي مراجعة السياسات وتبني استراتيجيات مستدامة.

بقلم/ الدكتورة اولادسالم نسيمة_ مختصة في القضايا السكانية والمخططات التنموية_ الجزائر

تُشكل معضلتا البطالة والغلاء المعيشي تحديين متلازمين يعصفان باقتصاديات العديد من الدول، مُشكّلين ظاهرة مركبة ذات أبعاد اقتصادية واجتماعية ونفسية متشابكة. إذ تتجاوز هذه المعضلة كونها مجرد أرقام وإحصاءات في التقارير الرسمية، لتمثل واقعاً يومياً مريراً يعيشه الملايين من الأفراد والأسر، ممن وجدوا أنفسهم محاصرين بين مطرقة البحث عن فرص عمل مناسبة وسندان ارتفاع تكاليف المعيشة المتزايدة. وتأتي هذه الإشكالية المزدوجة في سياق تحولات عالمية عميقة، فرضتها التطورات التكنولوجية المتسارعة، والتغيرات الهيكلية في أسواق العمل، والأزمات الاقتصادية المتعاقبة، مما يستدعي إعادة النظر بشكل جذري في المقاربات التقليدية للتعامل مع هذه الظواهر، والبحث عن استراتيجيات مبتكرة تتجاوز الحلول الترقيعية المؤقتة، نحو معالجات هيكلية مستدامة تعالج جذور المشكلة وليس مظاهرها فقط.

  1. الأبعاد المتشابكة للبطالة والغلاء المعيشي

تتميز العلاقة بين البطالة والغلاء المعيشي بتعقيدها وتشابكها، إذ يُغذي كل منهما الآخر في حلقة مفرغة يصعب كسرها. فارتفاع معدلات البطالة يؤدي إلى انخفاض القدرة الشرائية لشريحة واسعة من المجتمع، مما يقلص الطلب الكلي على السلع والخدمات، ويضعف الحركة الاقتصادية، ويدفع المزيد من المؤسسات نحو تقليص نشاطاتها وتسريح العاملين، ليرتفع معدل البطالة مجدداً. وفي المقابل، يؤدي الغلاء المعيشي وارتفاع الأسعار إلى تآكل القيمة الحقيقية للأجور، مما يضع ضغوطاً متزايدة على أصحاب العمل لرفع الأجور، وهو ما قد يدفعهم في كثير من الأحيان لتقليص عدد العاملين لديهم للحفاظ على هوامش الربح، مما يفاقم مشكلة البطالة. وتتعمق هذه الإشكالية في ظل تنامي ظاهرة “العاملين الفقراء”، أي أولئك الذين يعملون بدوام كامل ولكن دخلهم لا يكفي لتلبية متطلبات الحياة الكريمة في ظل الارتفاع المستمر للأسعار.

  • الأسباب الهيكلية وراء تفاقم المشكلة

تعود جذور مشكلتي البطالة والغلاء المعيشي إلى عوامل هيكلية عميقة تتجاوز الاختلالات المؤقتة في آليات العرض والطلب. فعلى مستوى البطالة، تلعب التحولات التكنولوجية الكبرى دوراً محورياً في إعادة تشكيل سوق العمل، مع تراجع الطلب على المهارات التقليدية لصالح مهارات جديدة لم تواكبها نظم التعليم والتدريب بالشكل الكافي، مما خلق فجوة مهارات عميقة. كما أدت العولمة إلى إعادة توزيع الفرص الاقتصادية عالمياً، مما أفقد العديد من القطاعات التقليدية قدرتها التنافسية، وأدى إلى انكماش دورها في توليد فرص العمل. أما على صعيد الغلاء المعيشي، فتلعب السياسات النقدية التوسعية، وضعف الرقابة على الأسواق، والاحتكارات في بعض القطاعات الحيوية، والاضطرابات في سلاسل التوريد العالمية، والضغوط التضخمية، دوراً بارزاً في ارتفاع تكاليف المعيشة بمعدلات تفوق نمو الدخول.

  • التداعيات الاجتماعية والنفسية للظاهرة

تتجاوز آثار البطالة والغلاء المعيشي الجوانب الاقتصادية المباشرة، لتطال النسيج الاجتماعي ككل. إذ تؤدي إلى اتساع الفجوة بين الفئات الاجتماعية المختلفة، وتقويض مبدأ تكافؤ الفرص، وتهديد الاستقرار الاجتماعي. كما تترك هذه الظاهرة المركبة آثاراً نفسية عميقة على الأفراد، متمثلة في فقدان الثقة بالنفس، والشعور بالإحباط واليأس، والقلق من المستقبل، خاصة لدى فئة الشباب الذين يمثلون شريحة كبيرة من العاطلين عن العمل. وتمتد هذه الآثار لتطال المجتمع ككل، من خلال ارتفاع معدلات الجريمة، وتفكك العلاقات الأسرية، وتأخر سن الزواج، وانخفاض معدلات الإنجاب، وزيادة الهجرة الداخلية والخارجية، وغيرها من الظواهر الاجتماعية السلبية التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمشكلتي البطالة والغلاء المعيشي.

  • ضرورة تبني استراتيجيات متكاملة للمعالجة

لا يمكن معالجة معضلتي البطالة والغلاء المعيشي من خلال سياسات جزئية ومتفرقة، بل تستدعي رؤية شمولية تعالج مختلف أوجه المشكلة وأبعادها. وتتطلب هذه المعالجة تضافر جهود مختلف الفاعلين: الحكومات، والقطاع الخاص، والمجتمع المدني، والمنظمات الدولية. فمن الضروري العمل على عدة محاور متوازية، منها إصلاح منظومة التعليم والتدريب لتتماشى مع احتياجات سوق العمل المتطورة، وتبني سياسات صناعية موجهة نحو القطاعات ذات القيمة المضافة العالية، وتوفير بيئة مناسبة لريادة الأعمال والمشاريع الصغيرة والمتوسطة، وتطوير شبكات الأمان الاجتماعي، وتفعيل آليات الرقابة على الأسواق لمنع الاحتكار والتلاعب بالأسعار، وإصلاح السياسات الضريبية لتحقيق العدالة الاجتماعية وإعادة توزيع الدخل.

  • تجارب دولية ناجحة يمكن الاستفادة منها

قدمت العديد من التجارب الدولية نماذج ناجحة في مواجهة تحديات البطالة والغلاء المعيشي، يمكن الاستفادة منها مع مراعاة الخصوصيات المحلية. ففي مجال مكافحة البطالة، تُبرز التجربة الألمانية أهمية نظام التعليم المزدوج الذي يجمع بين التعليم النظري والتدريب العملي، مما يسهل انتقال الشباب إلى سوق العمل. كما توضح التجربة الكورية الجنوبية نجاح السياسات الصناعية الموجهة في خلق فرص عمل نوعية في قطاعات تنافسية عالمياً. وفي مجال معالجة الغلاء المعيشي، تقدم تجارب دول اسكندنافيا نموذجاً للتوازن بين آليات السوق وتدخلات الدولة لضمان تكلفة معيشة معقولة للمواطنين، من خلال دعم الخدمات الأساسية كالسكن والرعاية الصحية والتعليم، مما يخفف الضغط على دخول الأسر.

التوصيات

إن معالجة معضلتي البطالة والغلاء المعيشي تتطلب تغييراً جذرياً في المقاربات المتبعة، والانتقال من المعالجات الظرفية إلى استراتيجيات متكاملة تعالج جذور المشكلة. وفي ضوء ما تقدم، يمكن تقديم التوصيات الآتية:

1. على مستوى السياسات الاقتصادية:

   – تبني سياسات اقتصادية كلية متوازنة تراعي التأثير المتبادل بين النمو الاقتصادي، والتشغيل، والتضخم.

   – إصلاح النظام الضريبي لتحقيق عدالة أكبر في توزيع الأعباء المالية، وتخفيف الضغط على محدودي الدخل.

   – تعزيز آليات الرقابة على الأسواق ومكافحة الاحتكار للحد من الارتفاع غير المبرر للأسعار.

   – دعم القطاعات الاقتصادية ذات الإمكانات العالية لتوليد فرص العمل، وخاصة الصناعات التحويلية والخدمات التكنولوجية.

2. على مستوى التعليم والتأهيل:

   – إعادة هيكلة منظومة التعليم والتدريب المهني لتتوافق مع متطلبات سوق العمل المتغيرة.

   – تطوير برامج التعلم مدى الحياة وإعادة تأهيل العمالة في القطاعات المتراجعة.

   – تعزيز ثقافة ريادة الأعمال في المناهج التعليمية، وتوفير الدعم اللازم للمبادرات الشبابية.

3. على مستوى الحماية الاجتماعية:

   – تطوير شبكات الأمان الاجتماعي لتوفير حد أدنى من الدخل الكريم للفئات الأكثر تضرراً.

   – تأسيس صناديق للتأمين ضد البطالة لمساعدة العاطلين خلال فترة بحثهم عن عمل.

   – تطوير منظومة الدعم المباشر وغير المباشر للسلع والخدمات الأساسية، مع ضمان وصوله لمستحقيه.

4.على مستوى الحوكمة والإدارة:

   – تبني مبادئ الشفافية والمساءلة في إدارة الملف الاقتصادي والاجتماعي.

   – تفعيل الشراكة بين القطاعين العام والخاص والمجتمع المدني في تصميم وتنفيذ سياسات التشغيل ومعالجة الغلاء.

   – اعتماد آليات متطورة لجمع البيانات وتحليلها، لضمان استهداف أفضل للسياسات والبرامج.

خاتمة

إن التعامل الجاد مع معضلتي البطالة والغلاء المعيشي ليس خياراً بل ضرورة حتمية لاستقرار المجتمعات وتحقيق التنمية المستدامة. وهذا يتطلب إرادة سياسية قوية، ورؤية استراتيجية واضحة، وتعاوناً فعالاً بين مختلف الأطراف المعنية، مع الاستثمار في الإنسان باعتباره محور التنمية وصانعها والمستفيد منها في آن واحد.