فهم التوحد: بين العلم والوعي المجتمعي
بقلم/ الاخصائيه رهام العتوم_ ىقياس وتشخيص اضطرابات التوحد_ الأردن
في السنوات الأخيرة، بدأ الوعي باضطراب التوحد يزداد بشكل ملحوظ، سواء في الأوساط الطبية أو في المجتمع عامةً. لكن، وعلى الرغم من هذا التقدم، ما زال الكثير من الغموض وسوء الفهم يحيط بهذه الحالة المعقدة. التوحد ليس مرضًا قابلًا للشفاء، بل حالة نمائية تمتد طوال الحياة، وتتطلب وعيًا عميقًا، وتفهمًا فرديًا لكل شخص يعيش تحت مظلة هذا الطيف الواسع. في هذا المقال، سنتناول التوحد من حيث التعريف، الأسباب، أساليب التشخيص، والعلاج، مع التوقف عند مسؤولية المجتمع تجاه المصابين به.
أولًا: تعريف التوحد
التوحد، أو “اضطراب طيف التوحد” (Autism Spectrum Disorder – ASD)، هو اضطراب في النمو العصبي يظهر في مرحلة الطفولة المبكرة، ويستمر مدى الحياة. يؤثر على طريقة تواصل الفرد وتفاعله الاجتماعي، إلى جانب سلوكياته واهتماماته.
يتنوع طيف التوحد بشكل كبير، ما يعني أن الأعراض والقدرات تختلف من شخص لآخر. بعض الأفراد قد يبدون قادرين على العيش باستقلالية تامة، في حين أن آخرين يحتاجون إلى دعم مكثف في جميع مجالات الحياة.
تشمل الأعراض الأساسية:
صعوبات في التفاعل الاجتماعي.
مشاكل في التواصل اللفظي وغير اللفظي.
سلوكيات متكررة (مثل تكرار الكلمات أو الحركات).
اهتمامات ضيقة ومركزة جدًا.
ردود فعل غير عادية تجاه الأصوات أو اللمس أو الروائح
ثانيًا: الأسباب والعوامل المؤثرة
رغم مرور عقود من الأبحاث، لا يزال السبب الدقيق للتوحد غير معروف. ومع ذلك، توجد عدة عوامل يُعتقد أنها تسهم في ظهوره:
1. العوامل الجينية
تشير الدراسات إلى أن للتوحد أساسًا وراثيًا قويًا. فإذا وُجد طفل مصاب بالتوحد في العائلة، تزداد احتمالية أن يُصاب أخوه أو أحد أقاربه. تم التعرف على بعض الطفرات الجينية المرتبطة بالتوحد، لكنها لا تفسر جميع الحالات.
2. العوامل البيئية
قد تلعب بعض الظروف البيئية دورًا في تحفيز ظهور التوحد لدى الأطفال المهيئين وراثيًا، مثل:
تعرض الأم أثناء الحمل لمواد سامة أو التهابات.
نقص الأوكسجين أثناء الولادة أو بعدها مباشرة.
الولادة المبكرة جدًا أو الوزن المنخفض عند الولادة.
3. لا علاقة للقاحات
من المهم التوضيح أن الفرضية التي ربطت التوحد بالتطعيمات، خصوصًا تطعيم الحصبة والنكاف (MMR)، قد تم نفيها بشكل قاطع من قبل المؤسسات الطبية الكبرى، وتُعد حاليًا من النظريات الخاطئة والمضللة.
ثالثًا: تشخيص التوحد
التشخيص المبكر والدقيق هو حجر الأساس لأي تدخل فعّال. لا يعتمد التشخيص على تحليل واحد، بل يتم من خلال تقييم سلوكي شامل من قبل فريق متعدد التخصصات.
أهم أدوات التشخيص:
مقابلات سريرية مع الأهل لفهم تطور الطفل وسلوكياته.
ملاحظة مباشرة للطفل في مواقف تفاعلية.
استخدام اختبارات معيارية مثل ADOS (اختبار المراقبة التشخيصية للتوحد).
تقييم اللغة والتواصل من قبل أخصائيي النطق.
الفحص العصبي والنفسي إذا لزم الأمر.
قد تظهر العلامات الأولى للتوحد في عمر 12–18 شهرًا، مثل عدم الاستجابة للاسم، قلة التواصل البصري، أو تأخر الكلام. كلما بدأ التشخيص والتدخل مبكرًا، زادت فرص تحسين المهارات الاجتماعية واللغوية والسلوكية.
رابعًا: طرق العلاج والدعم
رغم عدم وجود “علاج” نهائي للتوحد، فإن هناك العديد من الطرق والأساليب التي تهدف إلى تمكين المصابين وتحسين جودة حياتهم.
1. العلاج السلوكي التطبيقي (ABA)
يُعد من أكثر العلاجات فعالية، ويستند إلى مبدأ تعزيز السلوكيات الإيجابية وتقليل السلوكيات غير المرغوبة من خلال التدريب المكثف.
2. علاج النطق واللغة
يساعد الأطفال الذين يعانون من مشاكل في التواصل على تطوير مهاراتهم الكلامية أو استخدام وسائل بديلة للتواصل مثل الصور أو الأجهزة.
3. العلاج الوظيفي
يركز على تطوير المهارات الحياتية مثل الأكل، اللباس، التنظيم الحسي، والاعتماد على النفس.
4. الدعم النفسي والتعليمي
يشمل إرشاد الأسر، وتوفير بيئة مدرسية مهيّأة تراعي احتياجات الطفل وتدعم دمجه التدريجي.
5. العلاج الدوائي
لا يعالج التوحد نفسه، لكنه قد يُستخدم للتعامل مع أعراض مصاحبة مثل القلق، الاكتئاب، أو فرط النشاط.
خامسًا: التوحد والمجتمع – دعوة للوعي
ما يحتاجه الأشخاص على طيف التوحد ليس الشفقة، بل الفهم والدعم. النظرة المجتمعية الخاطئة للتوحد على أنه “إعاقة عقلية” أو “مرض نفسي” تُكرّس العزلة وتعيق الاندماج. من المهم أن يكون لدينا وعي بأن المصاب بالتوحد قد يكون ذكيًا للغاية، لكنه يعبر عن نفسه بشكل مختلف.
يجب أن تتحول المدارس إلى أماكن دامجة، وأن تُتاح فرص العمل للأشخاص ذوي المهارات الفريدة. الدعم يبدأ من الأسرة، ويُستكمل في مؤسسات المجتمع كافة، من الإعلام إلى الرعاية الصحية والتعليم.
—
خاتمة: رؤية شخصية
من وجهة نظري، التوحد ليس عبئًا كما يُصوّر أحيانًا، بل هو شكل آخر من أشكال التنوع البشري. هو عقل يرى التفاصيل الدقيقة، ويشعر بالعالم بحدة مختلفة. التحدي الأكبر ليس في سلوك الطفل التوحدي، بل في عجزنا كمجتمع عن احتواء الاختلاف وفهمه.
حين ننظر إلى التوحد على أنه اختلاف لا عيب، نبدأ ببناء جسر بين عالمين – عالم “الطبيعيين” كما نسمي أنفسنا، وعالم التوحديين الذين يعلموننا الكثير عن الصدق، الثبات، والتركيز في زمن مشتت التوحد هو نمط تفكير يستحق أن يفهم ويحترم ومن خلال تجربتي في التعامل مع أطفال التوحد تعلمت أن كل طفل يحمل عالمًا خاصًا فيه الكثير من الجمال والتحدي المجتمع بحاجه الى وعي أعمق لا لدمج المصابين بهذا الاضطراب فحسب بل للاستفاده من قدراتهم الفريده فالتقبل هو الخطوه الأولى نحو مجتمع اكثر إنسانية وشمولًا
