المرأة الريفية: بين قيود التهميش وآفاق التمكين – صرخات مكتومة وآمال تتحدىالصمت
الدكتورة : اولادسالم نسيمة رئيسة برنامج المرأة الريفية والصحراوية لمؤسسة BRC
في أعماق الريف العربي، تقف المرأة الريفية كشاهد حي على معادلة ظالمة: فهي المحور
الأساسي للحياة الاجتماعية والاقتصادية، لكنها أيضا الضحية الأولى لمنظومة متكاملة من
التهميش والحرمان. تتحمل هذه المرأة عبء العمل في الحقول تحت أشعة الشمس الحارقة،
وتدير شؤون المنزل، وترعى الأطفال، وتحافظ على الموروث الثقافي لمجتمعها، لكنها في
المقابل تعاني صمتاً من انتهاكات جسيمة لحقوقها الإنسانية الأساسية.
هذا المقال يسلط الضوء على الواقع المرير للمرأة الريفية في العالم العربي، ويكشف النقاب
عن معاناة مستمرة تختلف مظاهرها من منطقة لأخرى، لكنها تشترك في جذورها العميقة المتمثلة
في الفقر والأمية والتقاليد البالية والقوانين غير المنصفة. نسعى هنا إلى تجاوز السرد التقليدي
الذي يكتفي بالنظرة السطحية، لنغوص في أعماق هذه المأساة الإنسانية المستمرة، ونستعرض
تجارب واقعية ونماذج حية، ونطرح تصورات وحلولاً عملية للنهوض بواقع المرأة الريفية نحو آفاق
أرحب من العدالة والكرامة.
الواقع المُعاش: صور من معاناة المرأة الريفية في العالم العربي
*الحرمان من التعليم:
تشكل الأمية حاجزاً قاسياً يحول دون تمكين المرأة الريفية في معظم الدول العربية. تشير
الإحصائيات إلى أن نسبة الأمية بين النساء الريفيات تتجاوز 60% في بعض المناطق، وترتفع
إلى ما يقارب 80% في المناطق الأكثر فقراً وتهميشاً. تُحرم الفتاة الريفية من التعليم لأسباب
متعددة، منها الفقر وبُعد المدارس عن التجمعات السكنية، والزواج المبكر، والمفاهيم
الاجتماعية التي لا ترى أهمية لتعليم البنات. تروي فاطمة (35 عاما) من إحدى قرى صعيد
مصر: “أُجبرت على ترك المدرسة في سن العاشرة لمساعدة أمي في الأعمال المنزلية والعمل
في الحقل. كنت أحلم بأن أصبح معلمة، لكن حلمي مات مبكراً. اليوم، أناضل لأضمن تعليم
بناتي رغم معارضة زوجي وأهله.”
*زواج القاصرات: طفولة مسروقة وحياة معلقة
في اليمن، تتجلى مأساة زواج القاصرات بأبشع صورها. تشير التقارير الحقوقية إلى ان
أكثر من 65% من الفتيات في المناطق الريفية يتزوجن قبل بلوغهن الثامنة عشرة، وحوالي
15% يتزوجن قبل سن الخامسة عشرة. هؤلاء الفتيات الصغيرات يُجبرن على تحمل مسؤوليات
ضخمة تفوق قدراتهن الجسدية والنفسية، مما يؤدي إلى مضاعفات صحية خطيرة، وأحياناً
الموت أثناء الولادة.
نور، فتاة يمنية تم تزويجها في سن الثالثة عشرة، تقول: “لم أفهم معنى الزواج عندما
أخبرني والدي أنه وافق على تزويجي من رجل يكبرني بعشرين عاماً. بعد عام، أصبحت أماً وأنا
ما زلت طفلة. أشعر أن حياتي انتهت قبل أن تبدأ.”
العنف والاستغلال الجنسي: جرائم في الخفاء
تعاني العاملات في القطاع الزراعي في دول عربية عديدة، خاصة في تونس ومصر، من
أشكال متعددة من الاستغلال والتحرش الجنسي. تتعرض العاملات في الحقول، اللواتي ينقلن في
شاحنات مكشوفة في ظروف غير إنسانية، لمخاطر جسدية ونفسية كبيرة. وفي غياب الحماية
القانونية والاجتماعية، تصبح هؤلاء النساء فريسة سهلة للمتاجرين بالبشر والمستغلين.
عاملة زراعية من تونس تبلغ من العمر 42 عاماً، تروي: “نعمل تحت أشعة الشمس من
الفجر حتى المغرب مقابل أجور زهيدة، ونتعرض لإهانات وتحرشات مستمرة من المشرفين
والسائقين. إذا اشتكيت، ستفقدين عملك، وعائلتك ستجوع.”
الحرمان من الرعاية الصحية:
في المناطق الريفية النائية، تفتقر النساء إلى الخدمات الصحية الأساسية، خاصة تلك
المتعلقة بالصحة الإنجابية. نسبة وفيات الأمهات أثناء الولادة في المناطق الريفية تفوق مثيلاتها
في المناطق الحضرية بثلاثة أضعاف في بعض الدول العربية. الولادة في ظروف غير صحية،
والحمل المتكرر دون رعاية طبية مناسبة، والممارسات التقليدية الضارة مثل ختان الإناث بمصر
، كلها عوامل تهدد صحة وحياة المرأة الريفية
الحرمان من الميراث والملكية: تمييز مقنن
رغم أن القوانين في معظم الدول العربية تضمن حق المرأة في الميراث، إلا أن المرأة الريفية
غالباً ما تُحرم من هذا الحق تحت ضغط الأعراف والتقاليد. تتنازل الكثير من النساء عن
حقوقهن في الميراث لصالح إخوتهن الذكور، إما طوعاً نتيجة للضغط الاجتماعي، أو قسراً تحت
التهديد. هذا الحرمان يزيد من تبعية المرأة الاقتصادية، ويحرمها من تأمين مستقبلها ومستقبل
أبنائها.
خديجة، امرأة مطلقة من الجزائر، تقول: “بعد وفاة والدي، طلب مني إخوتي التنازل عن نصيبي
في الأرض. رفضت في البداية، لكنهم قاطعوني وهددوني، حتى اضطررت للتوقيع على أوراق
لم أفهم محتواها. اليوم، أعيش مع أطفالي في غرفة مستأجرة ونكافح من أجل لقمة العيش.”
العمل غير المدفوع الأجر: استغلال
تقوم المرأة الريفية بأعمال متعددة ومرهقة في المزرعة والمنزل دون أن تحصل على مقابل
مادي عادل. تشير الدراسات إلى أن النساء الريفيات يعملن في المتوسط 16 ساعة يوميا، منها
12 ساعة في أعمال غير مدفوعة الأجر. هذا العمل غير المعترف به اقتصادياً يساهم بشكل
كبير في اقتصاد الأسرة والمجتمع، لكنه يبقى غير مرئي وغير مقدر.
صفية، مزارعة من المغرب، توضح: “أستيقظ قبل الفجر لرعاية الماشية وإعداد الطعام، ثم أذهب
مع زوجي إلى الحقل حيث أعمل حتى العصر. أعود لإعداد وجبة العشاء ورعاية الأطفال
والأعمال المنزلية حتى منتصف الليل. زوجي يحصل على المال مقابل بيع المحصول، بينما
يعتبر عملي واجبا طبيعيا لا يستحق أجرا.”
جذور المشكلة: لماذا تستمر المعاناة؟
*الموروث الثقافي والاجتماعي:تعاني المرأة الريفية من منظومة قيمية تكرس دونيتها وتحصر
دورها في إنجاب الأطفال وخدمة الزوج والأسرة. هذا الموروث الثقافي يشرعن العنف ضدها،
ويبرر حرمانها من حقوقها الأساسية، ويعتبر خروجها عن الأدوار التقليدية خروجاً عن قيم
المجتمع.
* الفقر وضعف التنمية: يرتبط وضع المرأة الريفية ارتباطاً وثيقاً بمستوى التنمية في مناطقها.
الفقر المدقع، وضعف البنية التحتية، وغياب الخدمات الأساسية، كلها عوامل تزيد من معاناتها
وتحد من فرصها في التعليم والعمل اللائق والرعاية الصحية.
* القصور التشريعي والتنفيذي: رغم وجود قوانين في معظم الدول العربية تحمي حقوق المرأة
نظرياً، إلا أن التطبيق على أرض الواقع يواجه تحديات كبيرة، خاصة في المناطق الريفية البعيدة
عن أعين السلطات. كما أن بعض التشريعات ما زالت تكرس التمييز ضد المرأة في قضايا
الأحوال الشخصية والميراث والجنسية.
* ضعف التمثيل السياسي: غياب المرأة الريفية عن مواقع صنع القرار يجعل قضاياها وهمومها
غائبة عن أجندات التنمية والإصلاح. صوتها مغيب في المجالس المحلية والوطنية، وبالتالي
تستمر معاناتها دون حلول جذرية.
نحو الأمل المنتظر: رؤية للتغيير
* التعليم كمدخل للتمكين: لا يمكن تحقيق أي تقدم حقيقي في وضع المرأة الريفية دون ضمان
حقها في التعليم. يجب على الحكومات العربية اتخاذ إجراءات عملية لتوفير التعليم الإلزامي
والمجاني للفتيات في المناطق الريفية، مثل بناء مدارس قريبة من التجمعات السكنية، وتوفير
المواصلات الآمنة، وتقديم حوافز مالية للأسر التي تبقي بناتها في المدارس.
* الرعاية الصحية الشاملة: إنشاء شبكة من المراكز الصحية في المناطق الريفية، مع التركيز
على خدمات الصحة الإنجابية، وتدريب قابلات محليات، وتنظيم حملات توعية صحية، كلها
خطوات ضرورية لتحسين الوضع الصحي للمرأة الريفية.
* التمكين الاقتصادي: دعم المشاريع الصغيرة التي تقودها نساء ريفيات، وتوفير التدريب
المهني والتقني، وتسهيل الوصول إلى الأسواق والقروض الميسرة، وإنشاء تعاونيات نسائية، كلها
آليات فعالة لتعزيز استقلالية المرأة الريفية اقتصادياً.
*الإصلاح القانوني والتشريعي: مراجعة وتعديل القوانين التي تكرس التمييز ضد المرأة، وتشديد
العقوبات على الممارسات الضارة مثل زواج القاصرات والعنف الأسري، وتعزيز آليات تنفيذ
القوانين في المناطق الريفية النائية.
*تغيير المفاهيم المجتمعية:إشراك القيادات الدينية والمجتمعية في حملات التوعية بحقوق
المرأة، واستخدام وسائل الإعلام والفنون لتغيير الصورة النمطية عن المرأة الريفية، وإبراز نماذج
ناجحة من نساء ريفيات تمكّن من تجاوز العقبات وتحقيق النجاح.
*تعزيز المشاركة السياسية: اعتماد نظام الكوتا النسائية في المجالس المحلية والبلدية، وتدريب
النساء الريفيات على المهارات القيادية، وتشجيعهن على المشاركة في الحياة العامة.
خاتمة:
إن قضية المرأة الريفية في العالم العربي ليست قضية هامشية، بل هي في صلب التنمية
المستدامة والعدالة الاجتماعية. لا يمكن الحديث عن تقدم حقيقي للمجتمعات العربية في ظل
استمرار معاناة نصف المجتمع من التهميش والحرمان.
التحدي كبير، لكن الأمل قائم في جيل جديد من النساء الريفيات اللواتي بدأن يكسرن حاجز
الصمت، ويطالبن بحقوقهن، ويخضن معارك يومية من أجل مستقبل أفضل لهن ولبناتهن. هؤلاء
النساء لسن ضحايا سلبيات، بل فاعلات في التغيير رغم كل الظروف القاسية، المسؤولية
مشتركة بين الحكومات والمجتمع المدني والقطاع الخاص والمنظمات الدولية والأفراد. كل منا
يمكنه أن يساهم، ولو بقدر بسيط، في تغيير واقع المرأة الريفية نحو الأفضل. فلننصت إلى
أصواتهن المكتومة، ولنعمل معاً من أجل تحويل آمالهن المنتظرة إلى واقع ملموس.
