“التمكين الصحي الغائب.. رصد اختلالات الصحة الإنجابية وخطر وفيات الأطفال في الأوساط الريفية الهشة”.
بقلم/ الدكتورة اولادسالم نسيمة_ رئيسة برنامج المرأة الريفية والصحراوية مؤسسة BRC العلمية الدولية _ الجزائر
تمثل الصحة الإنجابية ووفيات الأطفال في المناطق الريفية المعزولة واحدة من أكثر القضايا الصحية إلحاحاً وتعقيداً في عصرنا الحديث. فبينما تشهد المراكز الحضرية تطوراً ملحوظاً في الخدمات الصحية والتقنيات الطبية، تبقى المجتمعات الريفية النائية تواجه تحديات جسيمة تهدد حياة الأمهات والأطفال على حد سواء؛ هذا التفاوت الجغرافي ليس مجرد مسألة إحصائية، بل ينعكس مباشرة على مؤشرات الصحة العامة، إذ تصل فجوة معدلات وفيات الأمهات بين المناطق الحضرية والريفية إلى نسب تصل إلى1/8 أي الثمن في بعض البلدان النامية، إن فهم هذه الظاهرة المعقدة يتطلب منا تجاوز النظرة السطحية للأرقام والإحصائيات، والغوص عميقا في جذور المشكلة التي تتشابك فيها العوامل الجغرافية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. هذا التحليل الشامل يهدف إلى تسليط الضوء على الأبعاد المتعددة لهذه القضية الحيوية، مع تقديم رؤية نقدية للتحديات الراهنة والفرص المتاحة للتحسين.
تعرّف المناطق الريفية المعزولة بأنها تلك المناطق التي تقع على مسافة تزيد عن 50 كيلومتراً من أقرب مركز صحي مجهز، أو التي تتطلب أكثر من ساعتين للوصول إلى الخدمات الطبية الأساسية. هذا التعريف، الذي وضعته منظمة الصحة العالمية، يكشف عن حقيقة مؤلمة: أن ما يقرب من 1.8 مليار شخص حول العالم يعيشون في هذه الظروف الجغرافية المتحدية.
إن التباعد الجغرافي ليس مجرد مسألة مسافات، بل يتضمن تعقيدات أخرى مثل طبيعة التضاريس، وتوفر وسائل النقل، والبنية التحتية للطرق. في العديد من المناطق الجبلية في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، قد تستغرق الرحلة إلى أقرب مستشفى عدة أيام سيرا على الأقدام عبر مسارات وعرة ومحفوفة بالمخاطر. تعاني المناطق المصنفة كـ”ريفية معزولة” وفق التعريفات التشغيلية التي تتراوح بين 16.1 كم إلى 100 كم من المراكز الصحية من نقص حاد في البنية التحتية للنقل. تظهر الدراسات أن 83.7% من الحالات الصحية الطارئة في هذه المناطق تتأخر بسبب عوامل متعلقة بالمسافة ووقت السفر. في الكونغو الديمقراطية على سبيل المثال، تضطر 60% من الحوامل للسير لأكثر من 30 كيلومترا للوصول إلى أقرب عيادة توليد.
يرتبط انعدام الخدمات الصحية في المناطق الريفية ارتباطا عضويا بمستويات الفقر. تشير بيانات البنك الدولي إلى أن 80% من الفقراء المدقعين يعيشون في مناطق ريفية، حيث تنفق الأسر ما يصل إلى 40% من دخلها الشهري على النقل الطبي الطارئ. هذه النفقات غير المتوقعة تدفع بملايين الأسر سنويا إلى براثن الفقر المدقع، في ظاهرة تعرف بـ”الفقر الصحي”؛ كما يرتبط الفقر بارتفاع معدلات وفيات الأمهات والأطفال في المناطق الريفية. حيث اظهرت الدراسات الاقتصادية أن الأسر التي تعيش تحت خط الفقر تواجه تحديا مزدوجا: عدم القدرة على تحمل تكاليف الرعاية الصحية من جهة، وفقدان الدخل اليومي عند السفر للحصول على العلاج من جهة أخرى؛ وعلى هذا الأساس نجد أن النساء الحوامل في هذه المناطق غالبا ما يؤجلن أو يتجنبن زيارة مقدمي الرعاية الصحية المتخصصين، مما يؤدي إلى عدم اكتشاف المضاعفات المحتملة في الوقت المناسب. كما أن نقص التغذية، الذي يعتبر مشكلة مستفحلة في المناطق الريفية الفقيرة، يؤثر سلبا على صحة الأم والجنين، مما يزيد من مخاطر المضاعفات أثناء الحمل والولادة.
لا يمكن فهم تحديات الصحة الإنجابية في المناطق الريفية دون الأخذ في الاعتبار السياق الثقافي والاجتماعي الذي تعيش فيه هذه المجتمعات. في العديد من الثقافات التقليدية، تحيط بعملية الحمل والولادة مجموعة من المعتقدات والممارسات التي قد تتعارض مع الممارسات الطبية الحديثة. تلعب الموروثات الثقافية دورا مزدوجا في تشكيل السلوكيات الصحية. في دولة مالي، تفضل 65% من النساء الولادة في المنزل بمساعدة قابلات تقليديات، وهو اختيار لا يعكس فقط الثقة في الممارسات المحلية، بل أيضا الخوف من التكاليف الباهظة للخدمات الصحية الرسمية. هذه الممارسات، رغم جذورها التاريخية، تزيد من مخاطر المضاعفات غير المُدارة بنسبة 70% مقارنة بالولادات المشرَفة طبيا.
على سبيل المثال، في بعض المجتمعات الأفريقية والآسيوية، تفضل النساء الولادة في المنزل تحت إشراف القابلات التقليديات، اللواتي قد يفتقرن إلى التدريب الطبي الحديث والمعدات اللازمة للتعامل مع المضاعفات. هذا التفضيل ليس مجرد اختيار شخصي، بل يعكس نظاما اجتماعيا معقدا يتضمن الثقة في المعرفة التقليدية، والخوف من البيئة المستشفوية الغريبة، والقيود المالية.
تكشف النمذجة الإحصائية الحديثة عن تفاوتات صارخة في معدلات الوفيات، حيث تصل النسبة العالمية لوفيات الأمهات في المناطق الريفية إلى 292 حالة لكل 100,000 ولادة، مقابل 100 حالة في المناطق الحضرية. في السياقات الإفريقية، تتضاعف هذه النسب لتصل إلى 536 حالة بين الأمهات منخفضات التعليم. الأسباب الرئيسية تشمل النزيف (27%)، وارتفاع ضغط الدم (14%)، والإنتانات (11%).
يعاني أطفال المناطق الريفية من معدلات وفيات تفوق نظراءهم الحضريين بنسبة 1/3. تشير بيانات اليونيسف إلى أن 45% من وفيات الأطفال دون الخامسة في إفريقيا جنوب الصحراء تُعزى مباشرة إلى صعوبة الوصول للخدمات الطبية. الأمراض القابلة للوقاية مثل الالتهاب الرئوي والإسهال تظل القاتل الأول، مسؤولة عن 55% من هذه الوفيات. التحديات في الكوادر الصحية.
تواجه النظم الصحية في المناطق النائية تحديا ثلاث الأبعاد:
– نقص الكثافة الطبية: تصل نسبة الأطباء لكل 10,000 نسمة في المناطق الريفية إلى 2.3، مقارنة بـ 31.2 في المناطق الحضرية.
– هجرة الكفاءات: يفقد 60% من العاملين الصحيين في المناطق النائية خلال أول 5 سنوات من العمل.
-عدم الملاءمة التدريبية: 70% من المناهج الطبية الحالية لا تُعد الأطباء للتحديات الخاصة بالممارسة الريفية.
يعتبر نقص الكوادر الصحية المدربة أحد أكبر التحديات التي تواجه المناطق الريفية المعزولة. تظهر الدراسات أن هناك نقصاً حاداً يصل إلى 80% في عدد الأطباء والممرضات المطلوبين لتغطية هذه المناطق بشكل مناسب. هذا النقص ليس مجرد مسألة أرقام، بل يعكس تحديات أعمق في جذب واستبقاء المهنيين الصحيين في هذه المناطق.
العوامل التي تساهم في هذا النقص تشمل الرواتب المنخفضة، وصعوبة ظروف المعيشة، ونقص الفرص المهنية للتطوير، والعزلة الاجتماعية. كما أن العديد من الخريجين الجدد من كليات الطب والتمريض يفضلون العمل في المناطق الحضرية حيث تتوفر فرص أفضل للتخصص والتطوير المهني.
إن معالجة قضايا الصحة الإنجابية ووفيات الأطفال في المناطق الريفية تتطلب سياسات صحية شاملة ومتكاملة. تحليل السياسات الناجحة في عدة دول يكشف عن أهمية التنسيق بين القطاعات المختلفة، بما في ذلك الصحة والتعليم والنقل والاتصالات.
في البرازيل، على سبيل المثال، ساهم برنامج “استراتيجية صحة الأسرة” في تحسين الوصول إلى الخدمات الصحية في المناطق الريفية من خلال نشر فرق صحية متنقلة وتدريب كوادر محلية. هذا البرنامج أدى إلى انخفاض معدل وفيات الأطفال في المناطق المستهدفة بنسبة تزيد عن 50% خلال عقد واحد.
لا يمكن إغفال تأثير التغيرات المناخية والتحديات البيئية على الصحة الإنجابية في المناطق الريفية. الجفاف وتلوث المياه والكوارث الطبيعية تؤثر جميعها على صحة الأمهات والأطفال. في العديد من المناطق الأفريقية، يؤدي نقص المياه النظيفة إلى انتشار الأمراض المعدية التي تهدد صحة الحوامل والأطفال.
كما أن تغير أنماط هطول الأمطار وارتفاع درجات الحرارة يؤثران على الأمن الغذائي، مما يزيد من مشاكل سوء التغذية التي تعتبر عاملاً رئيسياً في وفيات الأمهات والأطفال.
خاتمة
إن قضية الصحة الإنجابية ووفيات الأطفال في المناطق الريفية المعزولة تمثل تحديا معقدا يتطلب حلولا مبتكرة ومتعددة الأبعاد. لا يمكن معالجة هذه المشكلة من خلال التدخلات الطبية وحدها، بل تحتاج إلى نهج تكاملي يشمل التنمية الاقتصادية، وتحسين البنية التحتية، والاستثمار في التعليم والتوعية الصحية؛ بحيث إن الطريق نحو تحقيق العدالة الصحية يتطلب إرادة سياسية قوية، واستثمارات مستدامة، وشراكات فعالة بين القطاعين العام والخاص. كما يتطلب احترام الثقافات المحلية والعمل معها بدلاً من فرض حلول من الخارج قد لا تتناسب مع السياق المحلي؛ اضافة الى التقدم التقني، خاصة في مجالات التطبيب عن بعد والذكاء الاصطناعي، يفتح آفاقا جديدة للوصول إلى المجتمعات النائية بخدمات صحية عالية الجودة. لكن نجاح هذه التقنيات يعتمد على توفر البنية التحتية اللازمة وتدريب الكوادر المحلية على استخدامها بفعالية.
وعليه فإن تحسين الصحة الإنجابية وتقليل وفيات الأطفال في المناطق الريفية المعزولة ليس مجرد هدف صحي، بل هو قضية عدالة اجتماعية وحق أساسي من حقوق الإنسان. إن كل طفل يولد في هذه المناطق يستحق نفس الفرص في الحياة والصحة التي يحصل عليها أقرانه في المراكز الحضرية المتقدمة؛ وعلى هذا فان التحدي الإنساني العظيم يتطلب منا جميعا – باحثين وسياسيين ومنظمات دولية ومجتمعا مدنيا؛ العمل بتضافر وإصرار لبناء عالم يضمن فيه كل إنسان الحق في الصحة والحياة الكريمة، بغض النظر عن مكان ولادته أو ظروفه الاقتصادية.
